هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 صفحات من مذكرات رجل عاقل جدا

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
أحمد الخروصي
Admin
Admin
أحمد الخروصي


ذكر
عدد الرسائل : 308
العمر : 36
الموقع : www.alawbi.4umer.com
تاريخ التسجيل : 11/12/2007

صفحات من مذكرات رجل عاقل جدا Empty
مُساهمةموضوع: صفحات من مذكرات رجل عاقل جدا   صفحات من مذكرات رجل عاقل جدا Emptyالثلاثاء أبريل 29, 2008 1:57 pm

صفــحـات مــــن مـــذكرات
رجـل عاقـل جـداً


... لا تظنوا أنني أشكو من نقص في ش. كلا، أرجوكم، لا تقعوا في الخطأ الرهيب الذي وقع فيه الكثيرون من قبلكم، فأنا مكتمل العقل إلى حد يفوق المعتاد. نعم، يفوق المعتاد، وهذه هي مأساتي. فأصحاب العقول العادية لا يلفتون النظر، ولا يكترث بهم أحد، ولا يتناولهم الآخرون سواء بالمديح أو بالذم. وهنا محور مأساتي كما قلت لكم، فأنا أرى أكثر من غيري، وأبعد، وربما بشمولية أوسع وأعمق. وأنا لا أتباهى بهذه الميزة دائماً، وعندما أفعل ذلك لا أبالغ كثيراً. وأقول «لا أتباهى» تجاوزاً، لأنني لا أعتبر ذلك تباهياً كما يفعل البعض، فهو حق مشروع لي، وذكره بين الحين والآخر يُعتبر عرضاً للحقائق فحسب، يمنح صاحبه نشوة بالغة، مثلما يبعث على النشوة أن تختال ببذلة جديدة، أو أن تدعو بعض الأصدقاء لمشاهدة قطعة مفروشات اشتريتها حديثاً. بل إن التباهي بالمقدرة العقلية أحق وأجدر من التباهي بالمقدرة الشرائية، فالأولى موهبة منحها اللّه عز وجل لعدد قليل من الناس، بينما الثانية قوة مكتسبة يمكن لأي شخص أن يصل إليها بشكل أو بآخر.
قد يتساءل بعضكم: إذاً أين المأساة في ذلك؟ هل أصابكم الملل؟ أرجو عفوكم، فربما قد استفضت قليلاً في حديثي، وقد أكون خارجاً عن الموضوع إلى حد ما. ولكن ما أدراكم ما هو الموضوع الذي أرغب في عرضه عليكم؟ على أي حال سأحاول التقليل ما أمكن من الاسترسال في لغو لا طائل من ورائه حتى لا تتهموني بالثرثرة، فأنا لست ثرثاراً بطبعي، ولا أجيد الثرثرة إلا بفرشاتي وألواني، التي إذا أطلقت لها حريتها فإنها ستواصل ثرثرتها من غير انقطاع لساعات طويلة، وربما لأيام متواصلة، فأنا رسام محترف أعيش من بيع لوحاتي. وقد تستغربون أن يوجد رسام محترف يستطيع كسب رزقه من لوحاته، وهذا لا يدهشني، فقد كان كل شخص ألتقي به للمرة الأولى في منزل أحد أصدقائي يستغرب أن يكون هذا عملي. كان التعليق نفسه يتكرر، كشريط تسجيل، بدقة وحرفية كاملتين:
ـ ماذا يعمل الأستاذ؟
ـ رسام!
ـ أقصد ما هو عملك الحقيقي؟
ـ هذا هو عملي الحقيقي.. رسام!
ـ آه.. تقصد أنك رسام هندسي؟
ـ كلا أنا رسام.. أرسم لوحات، وأبيعها، وأعيش بثمنها.
ويستمر الحديث على هذا الشكل، باستنكار مكتوم مهذب من محدثي، وإصرار عنيد مترقب مني. كان الجميع يظهرون ردة الفعل نفسها، وكنت دائماً أبدي الإصرار نفسه. كانوا على استعداد لتقبل أي جواب مني، لو قلت لهم إنني كاتب في دائرة حكومية، أو عامل في ورشة لتصليح السيارات، أو نادل في مطعم، أو حتى مُهرّب. أما أن أكون رساماً محترفاً فهذا شيء غير مألوف، والناس لا يقبلون غير المألوف. حتى أمي الطيبة ـ رحمها اللّه ـ كثيراً ما كانت تطالبني بالبحث عن «وظيفة مجدية» تعطيني كياناً واضحاً بين الناس، وتؤهلني للعثور على زوجة مناسبة. كانت تقول لي:
ـ بماذا سنجيبهم إذا سألوا عن عملك؟ هل سنقول لهم إنك رسام؟ هل سيقتنعون بقدرتك على إعالة ابنتهم من عملك هذا؟
وكانت النتيجة أنني الآن في الستين من عمري.. ولا أزال عزباً.
على أي حال، لم تكن هذه مأساتي الحقيقية، لكن حقيقة المأساة كانت رؤيتي البعيدة للأمور، وتفكيري المغرق في الشمولية. كانت رؤيتي البعيدة تصل في بعدها إلى حد محرج لي أحياناً، ولبعض الأشخاص غالباً. فكثير من الناس لا يرتاحون كثيراً لأصحاب الرؤى البعيدة، لأنهم يبعدونهم عن الاستقرار والراحة والطمأنينة التي تبعثها فيهم الحياة المرحلية الهادئة. وهذا بالذات ما ضخم مأساتي، وأوصلني إلى حد المواجهة المباشرة مع نتائجها. لقد بدأ الأمر بسيطاً، مثل بدايات الأزمات الكبيرة كلها، ونما بسرعة، مثل نموها أيضاً، حتى وصل إلى نقطة الانفجار. كنت أقف في مخزن لبيع الملبوسات أتأمل مجموعة من ربطات العنق، وتدخل أحد عمال المخزن قاطعاً تأملي، وراح يقترح علي ألواناً معينة، لكنني رفضتها بطبيعة الحال لأنها لا تناسب ذوقي، وبخاصة أن اختيار الألوان وتناسبها هو من صميم عملي. وفجأة رأيت في وجهه ابتسامة «خاصة».. وربما وجدتها أنا «خاصة» بسبب رؤيتي البعيدة جداً، لقد تبينت في تلك الابتسامة رأيه الصريح بي، كأنه يملك تلك الموهبة النادرة مثلي أيضاً . كان يراني بعمق.. وكان يسخر مني، ويحاول مسايرتي بصبر نافد، وبترفع مهذب متقن. وشعرت بيدي ترتجفان، وقلبي ينبض بقرع صارخ. وتغلب الانفعال الغاضب في داخلي على الهدوء والدماثة اللتين أغلف شخصيتي بهما عادة. كنت قد وصلت إلى نقطة اللاعودة. وخلال لحظة قصيرة أدركت ذلك، لكن لحظة الإدراك تتأخر دائماً عن الوقت المناسب للسيطرة والكبح... وشعرت بأنني انفصلت إلى شخصين، أحدهما انقلب إلى وحش خرافي مستثار، راح يحطم كل ما تصل إليه يداه، بلا وعي أو تفكير.. بلا موجّه.. بلا هدف.. باستسلام كامل لانفعاله الذي انطلق متحرراً من كل قيد. والشخص الآخر إنسان واعٍ مدرك يقظ، يرى ويسمع كل ما يجري، بأدق تفاصيله، لكنه عاجز تماماً عن التدخل، أو التأثير.. يراقب الأحداث بحياد كما يراقب شريطاً سينمائياً، لا علاقة له بأحداثه، ولا يعرف كيف ستكون نهايته.
لكن هذين الشخصين سرعان ما عادا إلى الالتحام من جديد. وشعرت بالتحامهما فوراً، وكان مفاجئاً وسريعاً مثلما كان الانفصال.. لكنه لم يكن تراجعاً وعودة إلى البداية، مثل تدوير الشريط السينمائي باتجاه معاكس، بل كان هبوطاً من الجهة المقابلة، كالانحدار عن قمة جبل من الجانب المقابل للصعود. وعندما وصلت إلى درجة الوعي الكامل كنت قد بلغت السفح تماماً. وفي درجة الوعي الكامل هذه أدركت أنني في سيارة مغلقة تنطلق بأقصى سرعتها. وبدأت استكشف ما حولي. كان يحيط بي من الجانبين رجلان بلباس أبيض، حاولت بمقدرتي الفذة على الرؤية البعيدة أن أستشف شيئاً ما من ملامحهما.. شيئاً يدلني على ما سيلي ذلك.. شيئاً يخبرني أين أنا؟ إلى أين أُنقل؟ ماذا سيحدث بعد؟ لكنني لم أجد في وجه أي منهما ما يمكن أن أسميه «ملامح». كانت هنالك عينان وحاجبان وأنف وفم.. كان هنالك كل أجزاء الوجه المعروفة، ولكن بلا ملامح. قد يقول بعضكم: ولكن أليست الملامح ما ذكرت؟.. كلا، فالملامح ليست عناصر مادية تراها العين، بل هي إحساس بما تكنه هذه العناصر، وهذا الإحساس هو ما افتقدته في هذين الوجهين.. لكنني عثرت عليه في اللباس الأبيض، الذي استنتجت منه ما أريد والذي كان ملامح هذين الرجلين.. ملامحهما الوحيدة حقاً.
كان الطبيب الذي استقبلنا، أنا وحارسي، من نوع يختلف كلياً عنهما. كانت له «ملامحه» الخاصة، المرنة، المدروسة بإتقان والتي يمكن التكيف بها حسب الحاجة. فقد منحني، كما اقتضت حالتي برأيه، نظرة حنان متواضعة التعالي، متفهمة، وطلب مني الجلوس برقة واضحة، أرفقها بتربيتة أبوية على كتفي ـ كان شاباً في الثلاثين ـ زيادة في محاولة منه لإقناعي وتطميني. وتوضحت الأمور أمام عيني بشكل جلي. إذاً فهم يظنونني ناقص العقل، أو بكلمة أخرى مضطرب الأعصاب... وكاد الشخصان في داخلي أن ينفصلا ثانية، لكنني تمكنت من كبح ذلك بمقدرة فائقة. كان الشخص الواعي بينهما يحاول الاستسلام للأمر الواقع، واعتبار وصولي إلى هذا المكان نتيجة منطقية طبيعية لما ارتكبه الشخص الآخر. لكن الآخر هذا كان يرفض تلك النتيجة، ويستغرب إحضاري إلى هنا. كان يعتبر أن المنطق يقتضي الالتجاء إلى الشرطة، لتعتقلني وتسجنني، وتطالبني بغرامة تعويضاً عما أتلفت في ثورتي. ولكن أن أصل إلى هنا.. أهذا رأيهم بي؟ وتمكن الشخص الواعي من إقناع الآخر بأن هذا تدبير موقت لن يطول. والتحم الشخصان من جديد بعد وصولهما إلى هذا الاتفاق، فقد كانت مقدرة الشخص الواعي على الإقناع مجدية إلى حد كبير في بداية الأزمات.. أما بعد تطورها فهذا موضع شك كبير.
خلال الأشهر الستة التي أمضيتها في المصح كانت القراءة تسليتي الوحيدة. فقد منعوني من الرسم لأن أدواته خطرة ويحظر وجودها بين أيدي ذوي الأعصاب المضطربة. لكن متعتي الكبرى كانت تلك الساعات الطويلة التي أمضيها في سلسلة من أحلام اليقظة. كنت خلال هذه الساعات أحقق بسهولة عجيبة ما لم أستطع تحقيقه طوال السنين العديدة التي انقضت من عمري. كانت هذه الأحلام هي بحر حياتي الواسع الذي تتخلله هنا وهناك جزر من اليقظة الجبرية. وكانت الجزر تزعجني وتنفرني وتقطع علي استرسالي، فكنت أحاول تقليل عددها ما أمكنني، كي أستطيع تحويل أحلام يقظتي إلى إحساس واقعي حقيقي. وكان هذا الإحساس (عند تمكني من بلوغه) يُشكّل حقاً أقصى درجات السعادة والنشوة التي كنت أحصل عليها. وعندما قرأت «الدكتور فوستوس» حسدته كثيراً على مقدرته الهائلة التي حصل عليها بإبرام عقد مع الشيطان، ينال فيه قوة لامحدودة طوال أربع وعشرين سنة، ثم يهب نفسه في نهايتها للشيطان ذاته كي يصطحبه إلى الجحيم. لكنني تفوقت بعد ذلك على هذا «الفوستوس» التافه، الذي لم يحسن الاستفادة من هذه الفرصة النادرة. فقد منحت نفسي عدداً أكبر من السنين، وحققت ما لم يستطع هو تحقيقه: لقد دمرت أعدائي بلا رحمة، وحصلت بسهولة فائقة على كل متعي الحسية والروحية التي رغبت فيها.. وتحديت أصدقائي الخياليين الطيبين كافة، ابتداء من أفلاطون، مروراً بتوماس مور، وانتهاء بويلز. فقد كانت أحلامهم، وخيالهم الذي أعقبها، محدودة إلى درجة متدنية جداً. أردت أن أقدم خدمة أوسع نطاقاً وأعم فائدة للعالم مما قدموا. وفكرت.. يجب أن أخلص هذا العالم من الكابوس الذي يمتص دمه.. من الشبح الذي يمسح ألوان أحلامه. وقلت في نفسي: إن الولايات المتحدة هي المارد الذي يخيف أطفال العالم بسوطه الطويل اللاسع، إذاً علي أن أحولها إلى مسخ لا حول له ولا قوة.. إلى دولة ضعيفة مقلمة الأظافر من دول العالم الثالث، تستجدي اللقمة والعطف والمساندة من أسيادها. ولكن كيف سأنجز ذلك؟ الأمر سهل، سأجردها من هيبتها، وهيبتها تكمن في قوتها المالية: مصارفها وشركاتها. إذاً سأبدأ بأضخم مجمع لتلك القوة: مدينة نيويورك... وخلال دقائق قليلة كانت المدينة قد خُسفت تحت مياه شاطئها، بناطحات سحابها وتمثال حريتها، بأغنيائها ومؤسساتها، بغرورها وجبروتها، بصلفها وعنادها؛ هكذا يكون العمل الحقيقي يا فوستوس، لا كما كانت ألعابك السحرية الساذجة المضحكة.
خلال إقامتي القصيرة في المصح كونت عدداً من الصداقات مع بعض النزلاء الذين اكتشفوا قدرتي الفكرية الفريدة وأعجبوا بها، وأصبحوا يتلهفون لمقابلتي والاستماع إلى آخر منجزاتي التي لم يكن لها حدود. وكان همي الأكبر ينحصر في إصلاح العالم؛ بمساعدة الدول الضعيفة وتقويتها صناعياً واقتصادياً، وتوحيد الدول المجزأة، وتهذيب كبرياء الدول القوية، للوصول إلى حالة مثالية يتحقق معها العدل والأمان والرفاهية لدى البشر كافة. وكثيراً ما كنت أستمع إلى العديد من الاقتراحات التي يعرضها أصدقائي الطيبون، فأقوم بإجراء ما يلزم من التعديل والصقل عليها قبل وضعها موضع التنفيذ. واستطعت خلال فترة محدودة نسبياً أن أخفف من حدة المجاعة في الهند، وأوصلت المياه الوفيرة إلى المناطق العطشى في إفريقية، وأنهيت حالات مزمنة من الصراعات في عدد من مناطق العالم، وعطلت المفاعلات المعدة لإجراء التفجيرات النووية، وأبقيت على ما خُصّص منها للغايات الإنسانية الحضارية. وخلال أشهر ثلاثة تمكنت من إيصال البشر إلى حالة مقبولة من الطمأنينة والاستقرار والرضا، تصلح أساساً للبدء بمرحلة جديدة من البناء والتعويض، بغية تحقيق الشكل المثالي للإنسانية كما ينبغي أن تكون، بالعدل والمساواة وتكافؤ الفرص. وفي الأشهر الثلاثة التالية بدأ ذلك يتحقق، وكان من الطبيعي بعد استكمال الأساس أن ألتفت إلى بعض الأمور المتممة، وعلى رأسها مبادئ التعامل الأخلاقي بين البشر. كان هذا في رأيي أحد أهم أسباب التخلف في دول العالم الثالث، وعنصراً مؤثراً يدفع الدول الصناعية حالياً إلى التراجع بسرعة، مقترباً بها من التخلف ثم الانهيار. وفوجئت بأن الإصلاح الأخلاقي أصعب بكثير من كل الإنجازات السابقة التي قمت بها، ابتداء من خسف مدينة نيويورك حتى تعطيل مفاعلات التفجيرات النووية. فهذه منشآت ومبان لها وجود مادي ظاهر، يمكن مجابهته والتأثير عليه. أما تلك فهي مشاعر وأحاسيس وردود فعل وسلوك وقناعات داخلية ومبادئ متوارثة، وبالتالي لا يمكن لأي قوة أن تغير من واقعها، ولا لأي قانون أو سلطة أن يضبط شذوذها. لقد كان تدمير العالم بكامله ثم إعادة بنائه، أو تغيير خريطته الجغرافية والاقتصادية، أسهل بكثير من إقناع مخادع كي يكف عن الخداع أو ظالم أن ينزع الظلم من قلبه. لكن اصراري ومقدرتي كانا أقوى من أن يتراجعا أمام عقبات كهذه، مهما كانت صعبة العبور.
بدأت بدائرتي الصغرى، بالمجتمع المحدود الذي فُرض علي أن أكون أحد أفراده ـ مجتمع المصح ـ هؤلاء الأصدقاء البسطاء الطيبين، المعجبين إلى درجة الذهول والانبهار بقوتي وأفكاري وإنجازاتي. كانت كل فكرة أقولها لهم تصبح قانوناً، وكل رأي أطرحه أمامهم يتحول إلى مبدأ يسيرون على نهجه. ولكن، حتى هذه القوانين والمبادئ التي وصلت إلى أعماق قلوبهم ظلت في حيز الاقتناع النظري. فالاقتناع النظري شيء والتطبيق العملي شيء آخر. كانوا مثل مدمن التدخين الذي يعرف باقتناع كلي أضرار التدخين وأهمية الامتناع عنه، لكنه أضعف من أن يبدأ الخطوة الأولى في طريق التخلي عن ممارسته، وبدء مرحلة حياتية جديدة موفورة الصحة. لكنني مع ذلك تمكنت من التأثير (والانتقال إلى التطبيق العملي) على عدد من زملائي أو تلامذتي كما كانوا يدعون أنفسهم، مما زاد من غبطتي ونشوتي وثقتي بمقدرتي الفريدة من نوعها. وعندما صدر قرار من إدارة المصح يتضمن أن بإمكاني مغادرته لتأكدهم من زوال أي آثار للاضطراب العصبي في سلوكي، كنت قد نجحت في تحويل عدد كبير من نزلاء المصح إلى أتباع لي، مؤمنين بأفكاري وناشرين لمبادئي ومدافعين عن نظرياتي.
كانت عودتي إلى مرسمي مفعمة بالإثارة والنشوة. كنت كمن يعود إلى بيته بعد سفر طويل مليء بالمشقة والإحساس بالغربة. وعلى الرغم من أن الأشهر الستة التي أمضيتها في المصح كانت مصدر بهجة وسعادة لي، إلا أنها تظل قصيرة بالنسبة للسنوات الستين التي أمضيتها خارجه، ومتعتها العابرة لا تقارن بتراكمات السنين المليئة بمزيج متداخل من المعاناة والسعادة والشقاء والسرور والعذاب واللذة. كانت إقامتي في المصح مثل سفر إنسان من موطنه المتخلف البائس إلى منتجع فائق السحر والروعة والرقي، يشعر بمتعة الإقامة فيه، وتملأ قلبه ووجدانه نشوة مذهلة جديدة على مشاعره وأحاسيسه، لكن أعماقه تظل مرتبطة بموطنه، برباط أسطوري المتانة لا يمكن لأي قوة أن توهنه أو تؤثر عليه. ومع ذلك فالعودة تفتح صفحة جديدة من المشاعر والأحاسيس كانت مجهولة من قبل. فثمة رباط جديد يبرز إلى الوجود يشد العائد إلى ذلك المنتجع بشوق تصعب مقاومته، ويدفعه إلى الحنين والتفكير الملحاح المتواصل بالعودة ثانية للاستمتاع بسحره وروعته. وتتولد آنذاك قوتان متعاكستان متصارعتان: قوة الارتباط والتعلق بالموطن الأصلي بما فيه من عاطفة وذكريات متأصلة متراكمة على مدى السنين، وقوة الانبهار والتطلع للتجديد والتطوير والانفتاح على عوالم لم تكن معروفة من قبل، لكن هاتين القوتين تظلان متساويتين مع تساوي دوافعهما، ويظل الإنسان بالتالي تحت تأثير صراعهما المتوازن، لا يقوى على مفارقة موطنه، ولا يستطيع أن ينتزع من قلبه الرغبة في السفر والاغتراب ثانية.
بعد شهرين من عودتي إلى المرسم كنت قد استنفدت ما تراكم لدي من شوق ولهفة للاعتزال والانزواء بين جدرانه، وفي الوقت نفسه كانت أحلام يقظتي قد أصبحت خبزي اليومي، وأصبحت مَلَكة متعمقة الجذور داخل كياني إلى حد لا أستطيع معه التخلي ساعة واحدة عنها. وبدأت أشعر بمتعة السير على غير هدى في شوارع المدينة، أراقب الناس في حركتهم اليومية، وأجعلهم مادة لأحلامي، أُسيّرهم وأُحرّكهم كما أهوى، وأُطبّق عليهم أنظمتي وقوانيني وأفكاري. وفي لحظات متباعدة كان يقطع تسلسل أحلامي هدير سيارة مسرعة، أو ارتطام شخص ذاهل بي، لكنني كنت أعود فوراً لأصل ما انقطع، من غير أن أسمح لأمور عابرة بتشويش مخططاتي الإصلاحية الهامة. ومع ذلك كان احتكاكي بالسلوك الأخلاقي للناس مبعث قلق وإرهاق عصبي شديدين لي، على الرغم من أن هذا السلوك هو نفسه الذي كنت أعايشه، وأتعايش معه إلى حد ما قبل دخولي المصح، والناس هم نفسهم الذين كنت أواجههم وأتفاعل معهم. لكن الأمور بدت وكأنها قد تغيرت بطريقة ما الآن. كنت كمن ينظر إلى الأمور بمنظار مكبر ومقرب، كان الناس يبدون الآن وكأنهم أمام أنفي مباشرة وملتصقين بي إلى درجة مرعبة، وأصبح سلوكهم كأنه موجه إلي بالذات كي أعاني منه وحدي وأتأذى من نتائجه. وبدأت أشعر أنني هدف مقصود لعبث الناس وظلمهم واضطهادهم. ولعل هذا كان مبعثه إحساسهم بالنقص أمام قدراتي المميزة، وغيرتهم مني وحسدهم لي بسبب تفوقي العقلي ورؤيتي البعيدة. ووصل الجهل بهم إلى درجة أنهم كانوا يسخرون من إنجازاتي المتواصلة حين يتفق أن أتحدث عنها أمامهم، كما أصبحوا يتندرون بأفكاري الإصلاحية ويتناولونها في جلساتهم بأقصى درجة من السطحية وانعدام الرؤية والبصيرة. وأخيراً لم يكن أمامي سوى العودة إلى الانزواء والعزلة في مرسمي، فهو صومعتي المحصنة المنيعة التي لا يستطيع أحد اختراقها وإزعاجي فيها.
الطيبين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://alawbi.4umer.com
dosman

dosman


ذكر
عدد الرسائل : 60
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 15/12/2007

صفحات من مذكرات رجل عاقل جدا Empty
مُساهمةموضوع: رد: صفحات من مذكرات رجل عاقل جدا   صفحات من مذكرات رجل عاقل جدا Emptyالأحد مايو 04, 2008 12:20 pm

شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا شكرا جزيلا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
صفحات من مذكرات رجل عاقل جدا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» صفحات من مذكرات رجل عاقل جدا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: المنتدى القصص مؤثره :: منتدى الكتب :: منوعات-
انتقل الى: